ثانيا - دولة المؤسسات (لماذا ؟) أ- لكيلا تتوقف المسيرة الحضارية للانسان ، وضعت هده الأطر لتتماشى والمعطيات في واقعية مفروضة لضمان العيش الجماعي .
ب- لكيلا تطغى النزعة الغريزية الاستيلائية للأفراد ، جعلت آليا ت لتصهيرها ، و تحويل دورالفرد الى عامل للتوازن والاستقرار ضمن الجماعة .
ج- لكيلا تخضع الجماعات لارادة الأفراد ، لأن دلك يتناقض و مبدأ المشاركة الذي يعد أساسا سبب التواجد الجماعي ، فتتولد باستمرار رغبة استرجاع الأدوار داخل الاطار التنظيمي ما يؤدي الى تعطيل
ذات الوعاء الاحتوائي للكيان الجماعي أيا كان نوعه أو مشربه أو مرجعيته .
د- و ببساطة لكيلا تتسيب الأمور ، وتسود الفوضى ، فيعم بذلك الفساد ، ما يؤدي حتما الى زوال (ذلك الكيان) . ما دامت أرضية القبر و مراسيم الجنازة قد تهيأت ضمنيا بفعل الممارسة . مثلما هو حاصل في المجتمعات غير القادرة على بناء "مؤسسات قوية متماسكة" ذات فعالية ميدانية ، على غرار ما يلاحظ على دول العالم المسماة (بالثالث) كافة ، والدول الاسلامية عامة ، والدول العربية منها على وجه الخصوص . فلنتوقع من هذه ، زوال تلك التي لا تقحم نفسها معترك (المغرفة ، الحرية ، التنظيم ، العمل) ليس هذا من باب التنبؤ أم التنجيم ، بل "حينما تتوفر الأسباب تحدث النتائج" لا محالة و بصفة طبيعية أيضا ، ان كانت هذه الأسباب ، مؤسسة ، مدروسة ، ومنظمة أدت الى نتائج ايجابية ومثمرة ، واذا كانت عكس ذلك ، ارتجالية ، عبثية ، غير هادفة فلا تتوقع غير الفوضى و الخراب و الدمار نتيجة ، هذا ان أسعفتك الأقدار و الا فهلاك و فناء أو أخف الأضرار زوال مبين .
لاحظ (دول العالم الثالث) مثلا ، تجد أن لها قواسم مشتركة كثيرة رغم تباعدها الجغرافي واختلافها العرقي و الثقافي ، كلها حاولت التغيير ضمن الحراك الاجتماعي التلقائي (كل حسب خصوصياته طبعا) . منها من انتهجت سبيلا ادت بها الى الخلاص ، على غرار التنينات الآسيوية و بعض من الدول جنوب أمريكية . و منها من أخطأت الاتجاه ، فألقت بنفسها أم ألقيت في جحيم يصعب النجاة من لظى سعيره ، وان حدث أن تمكنت من الانفلات ، فانها لن تسلم من آثار الاكتواء و تشويهاته ، مثلما يحدث الآن للدول العربية (عراق ، يمن ، سوريا ، سودان ، مصر ثم البحرين ، الأردن مع ترقب انتنقال العدوى لتشمل ما تبقى من الدويلات بالمنطقة) ، بينما ليبيا و تونس سوف تكون أضرارهما أقل ، و حظوظهما أوفر للخروج من هذه الدوامة ! أكيد أن البعض سيستغرب و يتساءل ، لماذا هذا الاستثناء وكيف ؟ نقول : لا يسع الموضع لتوضيح ذلك في هذا المقام ، لكن عاملا الموقع الجغرافي و الامتداد الثقافي سيشفع لهما .
أما بالنسبة لنا (الجزائر) فالحق يقال ، لقد دفعت الثمن غاليا في هذا المجال ولا تزال ، مجال الحق في اكتساب "الذات" أو تحريرها . لكن بالمقابل ، رغم المطبات والانتكاسات ، و مهما تكن الكلفة ، اكتسبنا حصانة تحولت مع مرور الزمن
باعا و رصيدا نعتز به و نعتمد عليه للمضي قدما في الوجهة السليمة الصحيحة ، بل وقدوة يحتدى بها ، لمن رغب في النجاة . الا أن المبتغى لم يكتمل بعد تحقيقه ، لأننا "دولة ناشئة " بالمنظور الحداثي ، ما زال لم نقتحم بعد مجال "التفعيل المؤسساتي أو التعيير النجاعي" بالأحرى ، اذ لا يزال هذا الأسلوب بعيد المنال بالنسبة الينا ، على الأقل في ظل الأوضاع و الظرف الذي نحن فيه الآن . لم نرق بعد الى درجة اتقانه ، أو التعاطي معه بايجابية وسلاسة ، كي لا أقول مجرد معالجته .
أنى أن يتسنى لنا ترميم البيت من الداخل أو تعميره ، بينما نحن في عراك مستدام منذ "الأزل" مع (الدخلاء من كل صنف) ، من كانوا في كل مرة يشكلون الحائل الطبييعي (المفروض) دوننا و الانبلاج الحضاري . منذ ما قبل الميلاد و نحن نتعارك . أحيانا مع "دخيل" صريح واضح ، و أحيانا أخرى مع "وافد" افتراضي ، مجهول مستتر ، وكأننا نصارع "الجنون" . الى حد التبست الأمور على بعض (الناس) ، اذ بلغ بهم "تغييب الذات" المسلط علينا عبر القرون من لدن الغزاة الى لحظتنا هذه ، درجة الارباك و التشكيك ، حيث أصبح المساكين يترددون في تحديد "انيتهم" و لا يعتزون بها أو يقنعوا ويقتنعوا بالانتماء الى (جزائر جزائرية ، فقط ، لا هي شرقية ولا هي غربية . مثلما أكد وفعل " الأبرار ") .
أقرب مثال الينا في الظرف الحالي "ماليزيا" لأن أوجه المقارنة بيننا كثيرة . فهي دويلة تنتمي الى العالم الثالث مثلنا ، رزحت تحت وطأة الاستعمار الاستيطاني مثلنا قرونا بعد قرون ، شعبها متعدد الأعراق و الثقافات مثلنا ، اضافة الى كونها تدين بالاسلام أيضا مثلنا . الا أنها "هي" نجحت في بناء (دولة) من خلال قوة اقتصادية ، بثت بفضلها الروح والحياة في أبنائها ، وجلبت اليهم أنظارالعالم بأسره واحترامهم اياها ، كما ضمنت لهم الاستقرار والاسترسال في النمو، ولسوف يؤدي بها ذلك الى تصنيفها في مصاف الدول الكبرى ذات "السيادة و القرار" . ان "الماليزيين" قوم يقدر ويدرك فحوى "الانجاز" و "كيف" السبيل الي تجسيده على أرض الواقع ، والا لما تحقق له ذلك و في ظرف قياسي لا يتجاوز العقدين من الزمن (20 سنة) .
سقت هذا المثال لأنهم بشر ونحن بشر ، ما تمكنوا منه لا يستحيل علينا اذا ما وفرنا الشروط مثلما فعلوا (التحرر من الرواسب الفكرية و الاحتكام الى الآليات الواقعية) زد على هذا وضعهم (العام) حين (استفاقوا) ليس أفضل من حالنا ، و الدليل على ما أقول أنه بالأمس القريب فقط كانت "ماليزيا" تحت وطأة استعمار استيطاني مختلف الأجناس و الجنسيات (استعمار بريطاني لمدة قرنين و نصف ، من 1786 الى 1963 ، ما قبلهم هولندي خلال القرن 17 ، ما قبلهم برتغالي خلال القرن-16 ، ما قبلهم تحت نفوذ الدولة الاسلامية ، قبلهم الهند الصينية ، ما قبل ذلك تبادل وصراع هيمنة عليها ما بين الهندوس والصين ، حتى اليابان وطئت حرمتها ابان الحرب العالمية الثانية) الا أنهم رغم ذلك كله لم يندثروا، لم يمحوا ، لم يذعنوا ولم يستسلموا ، بل ، تمكنوا من رفع التحدي و تحقيق معجزة من خلال الطفرة النوعية التي حققوها بقيادة رجل كبير يدعى(محمد ماهاتير أو ميهاتير) وفي زمن قياسي لا يتجاوز العقدين من الزمن (20 سنة فقط) كما أسلفت الذكر و أكرر للتوكيد .
بينما نحن ، فبعد خمسة عقود (50سنة)من الرجوع الى "الذات" لا نزال عاجزين حتى عن التعرف على "الذات" ذاتها (من نحن و ماذا نريد ؟) ، فما بالك بصناعة دولة أوبناء قوة (ما) . رغم الفرق الشاسع الذي بيننا و بينهم من حيث الثروة الباطنية والوفرة الطبيعية لصالحنا ! . لكي تتجلى الحقيقة وتتضح لنا أكثر أسباب و كيفيات نجاحهم و فشلنا نقول: هناك حكمة متداولة بكثرة عندنا (كجزائريين) ، مفادها أن (يد وحدة ما تصفق) وهذا صحيح ، والا !
- فمن أين (لمحمد ماهاتير) بمفرده أن يصنع "دولة" ، لولا اصطفاف كل الماليزيين في نفس المنحى الذي رسمه واياهم ؟
- من اين له أن يبني منظومة اقتصادية كالتي هم عليها الآن ، لولا انخراط كل الماليزيين في مشروع النهوض بالذات ؟
- من أين له أن يضع لهم أنساقا تستنفذ فيها الطاقات كلها ، لضمان الديمومة والاستمرار ، لولا قناعة الماليزيين باعتماد مقاربة عملية مواكبة لمتطلبات الظرف ومعطياته الحقيقية بالقراءة المعرفية ، الموضوعية و الصحيحة لواقعهم .
بينما عندنا ، ويا للغرابة مما نرى ! ! فالأمور كلها في غير نصابها ، بما في ذلك المصطلحات أو (الكلمات)!
1 - الانسجام : ولنسمه ، الانتظام أو التنظيم أو النظام (ليس بالمدلول السلطوي الاستغبائي المتداول بين أوساط الحكام عندنا طبعا)، وهو أهم آليات بناء الدولة ، والارضية الضرورية و المثلى لأي عمل مشترك . لم ولن يقع بين أبناء هذه الأرض ، ما دمنا نجتر العبارات البالية من قبيل (الحاكم والمحكوم) ، (الرئيس و المرؤوس) ، (الراعي والرعية) !. لا يمكنك عزف موسيقى عصرية "بالطبل والغيطة" يا بشر! لكل نغمة نبرتها كما لكل قصة بطلها ، فاتركوا لكل أوان جيله. من لم يستوعب اليوم متطلبات الحداثة ، عافاه الزمن ، و من رغب عن تبني مناهجها أهمله التاريخ ، بل ان مجرد العزوف عن مسايرة وتيرتها والزخم الذي تحدثه مولداتها وتداعياته يعد ضربا من البلادة واللاوعي يعني أن (صاحبه) ساقط لا يوضع في الحسبان ، أي سقطت عنه كل الواجبات ، أي (رفع عنه القلم) وباتالي فهو غير مؤهل حتى للعناية بنفسه ، فما أدراك بادارة شؤون الناس !؟ .
متى كنا حميرا ، حتى نحلس ، ونحمل ، فنقاد
متى كنا بقرا ، يسمن ليذبح، أو يخصى ليفلح ؟
متى كنا قطعانا تنساق من دون وجهة ولا ارادة ؟
نعم فينا ما فينا ، نعترف به و لا خجل ، السطحية ، الفوضوية ، العفوية ، الدعابة ، الارتجال ، سرعة الغليان ثم الذوبان ، سرعة الهيجان ثم النسيان ، الى غيرها من المواصفات ...! أما أن نرضى الآن ، بعد الألفية الثانية و بعد "استئناس" (البهيم) كلها أو الأغلبية منها ، بالانقياد هكذا فقط ، وراء السراب في أعقاب الفراغ بجهالة بدائية ، أو نقبل أن نعد "رعية" أو "محكومين" أو "مرؤوسين" كما يريد أو يوهم أهل التضليل هؤلاء ، فالى أين الاتجاه؟
( لا يمكن "للرعية" أن تبني "دولة" اطلاقا ) مهما طال بهم الأمد . لا لشيء ، سوى لكون الدولة يبنيها "مواطنون" واعون بما لهم و ما عليهم ، مضطلعون بمسؤولياتهم ، قائمون لحقوقهم و واجباتهم . لا يكتفون بدور التبعية و الانصياع الأعمى مثلما هو حال "الرعية" ، لأن "الرعية" دوما في حاجة الى "وصي" يتولى تدبير شؤونهم (من يرعاهم) ، حتى في التعريف اللغوي البحت لهذه الكلمة ، و القراءة الأدبية لها أيضا ، لاحظوا ما تحمله هذه اللفظة في طياتها من دواعي الاستدرار والاستعطاف و الاستكانة ، لذلك فارعية دوما في (قصور أبدي) و بحاجة مستفيظة الى من يتولى أمرهم ، "كلما زادوا كلما انفضحت خطاياهم ، و كل ما استزادوا كلما انكشفت فضائحهم" . اذا ما تعرى الصبي كان المشهد جميلا رائعا ، و طبيعيا ممتعا يروق الناظرين ، لا عيب فيه و لا حرج بالمرة . أما حالة الراشد يا "اخوان" ! فيجب الشعور "بالذات" والقيام بها عند أي تصرف و ابان كل ممارسة ، و ذلك بالتقيد بسلوك ينم عن نضج واحكام لا يدعان سبيلا للعبث او الصدفة أوالارتجال ، والا "انكشف و افتضح" وذاك ما تتقزز منه كل نفس بشرية حيثما وجدت و النفس الجزائرية منها بشكل أبلغ .
2 - الحس وتفعيل "الذات" : من السلوكات التي تدفع بالفرد وتدربه على مصانعة الأمور والتفاعل معها في احتكاك دائم و مباشر، ما يولد فيه الرغبة المتجددة باستمرار في محاولة "صنع" الحياة ، وهذه بدورها بمثابة المحفز الطبيعي الذي يدفع المرء الى الأداء أو (القيام بعمل) ، وكنتيجة لهذا الفعل (الحركة)، يصد ر"الانجاز" ، الشيء الذي يجسد المعنى الحقيقي للوجود (الحياة) . و حينما تصبح هذه الممارسة موطدة في الأفراد و أضحى طبعا و مزاجا يميز تصرفهم العفوي ، تكون منهم مجتمع مبني على "الحركة" ، "العمل" ، "الحيوية" و هي كلها خصائص تدل على اثبات الوجود وضمان الاستمرارية . "من عمل أنجز ، ومن أنجز قد خلق ومن خلق جدد الحيا ة" .
بينما نحن (كشعب) لا (كجزائريين) ، وأنا أعي جيدا ما أقول وأعني به ما أعني ، لقد مورست علينا و فرضت منظومات وأساليب ، تمسييخية ، تنسيخية ، امحائية من قبل "الدخلاء" الغازين ، الوافدين من كل حدب وصوب ، كل بحجته و
أحاجيجه ، لم تذر لا الشيبة و لا الولدان ، لا الفتية و لا الكهلان ، لا الرجال و لا النسوان ، بل أتت حتى على الدواب والشجر ، وعلى البراري والصخر ، و على الوديان و البحر . كادت أن تبتلع "جغرافيتنا والتاريخ" بعد أن احتكرت لها
"الوجود و اللا وجود" و استرزقت منا واستغنت على حسابنا "بالموجود و اللاموجود" . كان الهدف والمستهدف دائما الى لحظتنا بالمناسبة ! ؟ (نحن و فقط "نحن و انيتنا" لا غير) . الا أن "أجدادنا" بالرغم مما عانوا في التصدي لهم وكابدوا
عبر الأزمان ، تمكنوا من الابقاء على النزعة والاصرار على الوجود و تحدي "قدر الاندثار" . نعم فقدوا الأراضي والخيرات ، بذلوا الغالين والغاليات ، دفعوا الضرائب كلها والجزيات ! لكن حافظوا على "النيف" وهو (سر وسببوجودنا) والضامن المؤكد على اثبات استمرارنا . لقد أوصلوا المشعل بين أيدينا ، و عليه ، فاليهم منا أسمى معاني الاجلاء والتقدير ، ولتحفظ رفاتهم هذه الأرض التي منها نبتوا ، و عليها ثبتوا ، ثم اليها سكبوا ، حتى تنتش تارة أخرى .
- لمن لا يعرف "النيف" ، انه الاعتزاز بالنفس وعدم السماح أن تذل أو تهان من الغير ، لاترهيبا ، ولا ترغيبا . رضي "أجدادنا" بضنك العيش في الجبال الوعرة ، و البيادي المقفرة ، على أن يطيقوا في (الحواضر) رؤية
حاكم جبار ، أو لقيا حشم و خدم مكار ، أو ايماءة من متسلط مستحوذ نكار ، ولا حتى مجرد الشعور بالانضواء تحت راية مغتصب ، مزدري ، قهار .
- لمن لا يعرف "النيف" ، انه احترام الذات ، بضبطها حتى لا تطال و لا تطال ، لا استكانة ، و لا تسآل. أكل "أجدادنا" وشربوا مما جادت به أرضهم ، ارتدوا و تدثروا بما صنعت أيديهم، ليس ذلك فحسب وانما غنوا و رقصوا
على طريقتهم متى ما ، حيثما ، و كيفما شاؤوا .
- لمن لا يعرف "النيف" ، انه الحياء و"الحشمة" من ارتكاب الرذائل و المذلات و كل ما من شأنه أن يسيء الى " الذات " أو يحط من " قدرها " من تقرب و تملق وتزلف للحكام ، أو احتماء واذعان وتبعية للنافذين ، أو خنوع و
رضوخ واستسلام للمعتدين،أو امتثال وركوع و انبطاح أمام الغالبين. لولا كذاك، أكان "لأجدادنا" أن يوصلوا "الأمانة" بين أيدينا ، بعد ما تحرش عليها من أجناس "أوغاد"؟
- لمن لآ يعرف "النيف"، انه (الأواصر) المتينة المتجلية بوضوح من خلال الطقوس العفوية التي نتعاطالها فيما بيننا بتبادل تواددات و حميميات منعشة ببساطة و تلقائية يندر مثيلها ، يصعب ان لم نقل يستحيل تذوق نشوة عبيرها
خارج هذه البقاع ، نمط حياة تفتقد اليه و تتمناه سائر الأمم . انه يعطي معنى و نكهة للحياة تسحر و تجتذب من كان و هذا منذ أن أطللنا على الوجود . لكننا و للأسف الى يومنا ما زلنا لا نعرف له أو عنه ما يكفي حتى نستثمر
بالايجاب . نمط يجعل من العيش معا أي مع (الآخر) غاية و قيمة يحلم بها الأموات قبل الأحياء ، نمط لم تحس به البشرية الا مؤخرا بعدما أريقت أنهار الدماء ، تقبل الآخر ، فالمصطلحات من نوع ، احترام الآخر، تقرير المصير
حقوق الأقليات........ الى غير ذلك ، لم يسمكع لها رنين الا مؤخرا أي أنها ابتكرت ما بعد العالميتين . بينما حبنا للشراكة و العيش مع "الآخر" سلوك فطري متجذر فينا ، عتيق ضارب في الأعماق ، قديم قدم الانسان نفسه .
أليس ذلك دليلا قاطعا على انسيتنا واستئناسنا قبل أن يتأنسن الاغريق ، لولا أن اعتبر (المتوحشون من كل صنف) ذلك ، ضعفا فينا أو غباوة ، فاستغلوه و وفدوا علينا من دون اذن أو انذار !. لقد نغصوا علينا الحياة و عكروا
صفو الأجواء وعطلوا علينا عجلة الاقلاع كل مرة .
- لمن لا يعرف (النيف)، انه (الحرمة) بمفهوم (الأحرار) ، لا يحبون أن تداس فضاءاتهم ، لا يرضون أن تحدد مجالاتهم ، و لا يحتملون ان تصادر حرياتهم . شعارهم بالربح أو بالخسارة (الانكسار و لا العار) ألم ندفع ثمن ذلك
باهضا عبر التاريخ ولا نظل ، الى أن يرث الله الأرض ؟ كم من قوم مر من هنا ؟ لو كنا قابلين للذوبان لاندثرنا مع الفينيق أو الرومان يا (رجل) ! فكيف لمن "عجز" اليوم ، ادعاء أو تزييفا ، يحاول تغيير مجرى الزمن ؟ حذار
من النفاق مع (الذات) !. أن نبخس أو نزجر أو نعاقب من قبل غريب فذاك أمر غير ذي أذى للبيب ، أما مجرد جفوة من حبيب ، (وليس من الأحبة بالحبيب سوى من عز و وقر) ، فذلك ما لا يترجاه (الأحرار) فلطفا بجزائرنا
لطفا .....لطفا .
3- الدراية الواقعية و الصدق (للذات) : متى ما أخطأ المرء قراءة واقعه ، كأن يدعي على نفسه العلم بينما هو جاهل ، أو ينسب اليها المال و المكسب بينما هو فاقد معوز ، أو يتباهى بالقيادة و الريادة بينما هو تابع مسوق ......و المظاهر لا حدود لها ... يكون قد تنكر لذاته ، و فوت عليها فرصة التفاعل الحقيقي مع الحياة ، و فقد لذلك أسباب الوجود كلها أو جزءا منها بصفة تلقائية . أن يحدث له ذلك عفويا أو مقصودا ، طوعا أو قسريا فالنتيجة دائما نفسها " فقدان الذات " .
مثلما يحدث ذلك على مستوى لأفراد ، يمكن أن يتعداه ليشمل أمما و شعوبا بكاملها ، كون هذه تخضع لنفس مقياس الوجود و اللاوجود ، كذا لسنة الحياة و الموت . فالانسان (الفرد) يفقد الفعالية والتأثير ويصبح سلبي الدور أو منعدمه تماما ، حين لا يقدر طاقاته و قدراته حق تقديرها ، أو حالما لا يتمكن من توظيف حذاقاته و مهاراته ، أو عندما يجهل أو يتجاهل مستلزمات الانتماء الى الفضاء الذي هو جزء منه ، بل من الناس من لا يعلم ، و لا يشعر أصلا ، أن للحياة عليه حقا وواجبا يؤديهما ، يترتب على اهماله أو التقاعس عن القيام به ذنب الجحود لرسالة التعمير التي لم يخلق آدم سوى لغرضها و الا ، لجعل مع الملائكة ، و لحيي حياة غير هذه . ان هذا الحس أرهف مشاعر الانسان الحيوية ، و أوثق الأربطة لديه تشبثا بالوجود ، فحري بمن يفتقدون اليه أو يتغاضون عن العناية بتنميته في أنفسهم ، أن يهجروا أو يفارقوا الى حيث العيش بلا ثمن و لا حراك ، ان هم لم يجتهدوا ليلقوا سبيلا للتكيف ، على أن يظلوا عبئا أو متاعا يزاحم الحياة في عدمية وسلبية كابحة منغصة ، حتى تحق فيهم تسمية : القوة المعطلة (لا العطالية) أو القطاع المهلك (لا المستهلك) .
هذا النمط من الأشخاص يصبحون كذلك ، في حالتين اثنتين لا ثالثة لهما : أ - حالة قسرية : و هي وضعية لا ارادية أو فوق طاقاتية لا يملك الفرد ازاءها الا القليل ، يتعرض صاحبها من خلالها الى عوامل و مؤثرات عدة تتحكم ان نسبيا
أو كليا في كافة التوجهات و التصرفات التي تصدر عنه ، و بذلك تتفاوت درجات مسؤولياته حسب وقع و شدة المؤثر ، وهي في تعاظم و تفاقم الى أن تتلاشى كلية ، أو بالأحرى ، حين تبلغ درجة تأثيرها أن " يرفع عنه القلم "
ب- حالة طوعية : و هي تلك التي يكون فيها الفرد سببا مباشرا و فاعلا عينيا ، كحالات التسيب و الاهمال ، أو حالة العبث و الارتجال ، أو عدم تقدير الزمن و
الأموال ، أو مختلف أنواع الطياش و التهور حين القيام بالأعمال .......الى غيرها من الطقوس و السلوكات ، التي لا تعفي صاحبها بأي حال من الأحوال ، و انما
تجرمه من جميع النواحي و الأصعدة كما تورطه بحكم كافة الأعراف و الدساتير .
كذلك الحال بالنسبة للأمم ، ان لم تنظر الى واقعها بعين المعرفة الحقة ، التي تتيح التحكم في العناصر الاساسية لقيام الحضارة (أنسان ، زمان و مكان) ، لن تتمكن من رؤية حالها بوضوح ، و قراءة معطياته بموضوعية ، كما هي على حقيقتها ، وبالتالى فأي برمجة تقام على أساس تلك العلومات (المغشوشة المغلوطة الخداعة) ، و أي تخطيط يوضع أستنادا الى تلك المعطيات (المزيفة الخاطئة و الكاذبة ) فان مآله الفشل لا محالة ، طال به الزمن أو قصر ، ما دام المنطلق غير صحيح . لأن العمل الؤسس ، أيا كان حجمه أو نوعه ، فلا بد له من دراسة أولية مسبقة ، تعنى أول ما تعنى، بتجميع تلك المعطيات نفسها كخطوة أولى ، ثم تفحصها بدقة و منهجية متناهية التعمق و التمحيص ، لتجعل منها سندا و أرضية مؤهلة ترسى عليه قواعد الانجاز و المنارة التي على ضوئها يستدل على الاتجاه السليم ، فالبوصلة عمرها ما أخطأت الشمال ، هكذا يقول العلماء .