بعدما تكونت لدينا صورة حول علاقة (المواطن بالدولة) من خلال طرح سؤال (ما معنى ؟) على المصطلحات الثلاث: "النضج المواطني - دولة المؤسسات - السيادة"، جاء دور طرح السؤال الثاني عليها ، "لماذا؟".
حتى تتجلى لدينا بعض الحقيقة ، لنتمكن من الرؤية بصفة أكثر وضوحا مما دأبت ولا تزال عليه ، لنحدد على ضوئها بعد ذلك مواطيء أقدامنا و نثبتها باحكام على المسالك المؤدية صوب الاتجاه المواطني الصحيح ، تفاديا للتعثر أو السقوط دون تحقيق الهدف و بلوغ المبتغى تارة أخرى، مثلما جرت العادة . لقد دلت التجارب و الواقع الذي نحن عليه ، أن لا مناص من نكريس المنهج العلمي لمواكبة الزمن ، و الاحتكام للعقل و للعقل فقط دون سواه ، لكونه المخول سماويا و الكفيل وضعيا بفري الاشكالات أيا تكن طبيعتها ، حيث أن مجانبة المنطق في حد ذاتها ابتعاد عن الحقيقة ، و كلما أخذنا عن هذه مسافة زدنا الأشكال تعقيدا . بينما نحن و الكل يعلم أن العواطف عندنا تتهاطل كالشلال عند معالجة أي أمر من الأمور ، و في كافة مناحي حياتنا ، اذ أن تصرفاتنا في مجملها أو الأغلبية منها على الأقل ، ذات مرجعيات من فصيل (أحب أوأكره - أظن أو أرتاب - يحكى أو يقال ...... "حياتنا دوما للمجهول" ) طوال عمرنا المديد (الله يبارك) ما استحضرنا التفكير يوما في أداءاتنا ، بمعنى أن منظومتنا الحياتية على الدوام ، أفرادا كنا أم جماعات ، نتفادى و نتهرب من التصرف بحكم الواجب ، بل نتنصل منه و لا نريده بالمطلق ، لا لشيء سوى لكون "الواجب"مرتبطا محكم الوثاق بالوعي ، يلزم الناس بالمساءلة قبل القيام بالفعل ، كما يلتزم بقاعدة مشروطية وضع الأسباب لتحصيل النتائج . الشيء الذي يستدعي التفكير و توظيف العقل أثناء ممارسة الحياة ، و هذا هو العنصر الأساسي الذي ينقص معادلة حياتنا لتستتب لنا و تستقيم . انه أشد ما يزعزع كياننا ، انه بالنسبة الينا مصدر كل ازعاج ، نحن نتوخى منه كل مصاب . يربكنا ، يقلقنا ، يسبب لنا الصداع......و..و.. و الحال هذه لا نملك حياله قدرة و لا مقاومة . بكل صدق نحن نخشاه و ننفر منه بقدر ما نرفض الحقيقة و نتوجس من العلم والمعرفة . لم نتبن هذا الفراغ القيمي باطلا ، و لم نرتم بين أحضان العدمية الفكرية عبثا ، و لا اكتسبنا مثل تلك السلوكات اعتباطا ، و انما الظروف والمراحل التي مررنا بها لم تكن لترضى غير كذلك الوضع ! فمنذ ما قبل الأديان و الرحى تدور على رؤوسنا ، استعمار - فاستدمار- ثم استحمار (نتيجة حتمية و طبيعية في آن واحد) . ازاء ذلك كله لم نكن نملك لأنفسنا و لا نزال ، سوى مسايرة القدر في أحسن أحوالنا أو الاستجابة له في ما دون ذلك (مسلمين مكتفين) . لقد غطنا في غيبوبة أغرقتنا في غياهب الجهل و النسيان يا جماعة ! نسيان ، من نحن ، كيف نحن ، و الى أين ؟ .
حى نهتدي و نسلك السبيل المؤدية ، حتى نكف عن معاداة الحق و الحقيقة ، حتى نتناغم و الواقع الفعلي للوجود ، علينا أن نعترف و نقر كمرحلة أولى ، أننا بالحق ضللنا و أخطأنا الاتجاه و لا نزال ما دمنا نرفض خبثا و نفاقا في حق ذواتنا و نتمادى في ألا نستجيب الاستجابة الكفيلة بضمان التصالح و الانسجام مع مستلزمات التطور الطبيعي ، كما أننا كنا و لا نزال لا نعلم ، ماذا يعني التقاعس عن الذات ، التفريط في الأداء لها ، و أخيرا عدم "استثمارها " كضرورة تصرفية للحياة . وعليه فالبحث و السعي و الأنجاز متلازمة اضطرارية ، يتعين على كل فرد منا القيام لها ، عسانا نحد من حدة موروثاتنا الفكرية و العقائدية المفلسة ، التي بفعلها تفشت و توطدت فينا السلوكات الرعناء التي لطالما أقصتنا من لب الحدث و و سعت الهوة بيننا و حسن التصريف بالعلم الذي لا ينفك يؤكد على "محورية" الانسان و كونه "الغاية " أولا و آخرا ، في كل ما يجري من تفاعلات . ألا أهون و أدنى ما يزان عندنا بكل المقاييس الى يومنا "الأنسان" ؟. سنحاول الاستدراك و محاولة الأبقاء على الرمق من خلال معالجة السؤال: ( لماذا ؟)
اولا- النضج المواطني (لماذا ؟) أ- لأنه نتيجة حتمية للعلاقة التفاعلية بين الكيان البشري و القطاع الجغرافي الذي يشغله ، تصنعه التراكمات الخبروية الذاتية و/ أو الغيرية .
ب-لأنه يمثل المرحلة الكفيلة بضبط الأيقاعات وترسيخ الأنساق التي تحدد (معالم) الدولة بالمفهوم الواقعي لهذا المصطلح
ج- لأنه استثمار بالايجاب ، يعني عنده تحصل تلك الرغبة الفطرية التي تدفع الى تغيير الأسوأ بالأمثل ، و تتحقق تلك الارادة المنبعثة و المتجددة باستمرار لاستبدال الخطأ بالصواب ، يتأكد النضج حين يتمكن
الفرد من ترجمتها الى سلوكات ميدانية قابلة للتجسيد .
د- لأنه أيضا يقضي على الرواسب الفكرية التي تحول دون الانبثاق والتفتق الذهني ، الذي يعد ملكة طبيعية يحوز عليها كل آدمي ، والتي من دونها يستحيل الابداع و تفجير العبقريات .
بكيفية أدق ، وبأسلوب أكثر بساظة و أجلى توضيحا ، نقول أن النضج المواطني محطة يبلغها لا محالة كل كيان بشري رغب في الاستمرار في الوجود ، أو بالأحرى سلك مسار بناء (الدولة) ، لأن ذلك المسعى يجعله يتعرض لامتحانات متشعبة
الاختصاصات ، متفاوتة الارتدادات ، متباينة المقاييس ، متذبذبة المستويات ، و مضطربة النتائج . ما يعرضه لاصطدامات متكررة متجددة من كل صنف ، ترغمه كل مرة على "التوقف" لاعادة البناء من جديد ، أو أصلاح العطب على أقل تقدير، حسب وقع الصدمة ( فعندنا مثلا ، حجم الخسائر لا يؤخذ في الحسبان ، فهو على حساب "ريشتر" و السلام ، أما الزمن والتكلفة فمتوفرين بالزيادة) لكوننا لم نكن نول اهتماما لعامل النجاعة ، ماجعل كل طاقاتنا تستنزف في الفراغ (في الوقت الضائع) وقت اعادة التكوين أو ترميم المعطل. (روسكلاج ثم روسكلاج) دائما مع القديم ، لم نفسح لنا فرصة و لو على سبيل المحاولة لنبدع أو نبرع وفق ذوقنا وطبقا لمزاجنا ، لأن الانتكاسات ، المتكررات ، المتاليات تلك ، كانت تحدث من الذات على الذات تارة ، ومن الغير على الذات تارة أخرى، وفي كل مرة بحثا عن الذات ذاتها وانتشالها من "العادة" المخزية اللعينة الملازمة لنا منذ أن وجدنا ، و التي تتمثل في ولعنا بالانتاش في حجر "غيرنا" ، وهيامنا بتفريغ زادنا دوما في جعاب "الآخرين " ممن لاقينا على دربنا (و كم هم كثر) و ان لم نكن نرغب فيهم في الحقيقة ، ولا كنا لنسعد للقياهم حتى (يا خي حالة يا خي)!. اننا نقطر حبا وعواطف "يا ناتس" ! قلوبنا تنفطر، وأكبادنا تتلظى على "الغير" ! ليتنا أحببنا ذاتنا وبسطنا لها ذراعينا ، و فتحنا لها حضننا ، ثم منحناها كل ذلك الود والحنان وتعاطفنا معها وتعاملنا معها بلطف وحذر مثلما هو حالنا مع "الغير" عساها تستقر لنا وتطمئن الينا فيحلو بذلك العيش سويا نحن واياها ! لبئس ما كانوا يصنعون . انها سلوكات رسوبية "يا بشر" ، انها تصرفات بدائية ، غريزية ، مدمرة ، فتاكة "يا بني آدم" ، انها طقوس وآليات رثة ،بالية ، صدئة ، عفنة ، معطلة "الميكانيزم" برهنت عن عدم صلاحيتها هذه آماد خلت . كلنا نمقتها فرادى أو جماعات ، كلنا نتوجس من فعلها ومفاعيلها ، كلنا يتظاهر بتحاشيها وتفادي صواعقها المرتدة بانعكاس ، كلنا يعلم في قرارة نفسه أنها تؤخر ولا تقدم ، كلنا يجزم أنها تقزم ولا تعظم ، كلنا يحبذ أن يقود و لا يلجم ، الا أن واقعنا يعكس عكس ما (نخمم) . انه لبلاء من نوع خاص ، انه لداء من عالم آخر، انه لمرض فوق طبيعي ، يعز على الأساة تشخيصه ، أعراضه ما خرجت من الأررض ولانزلت من السماوات ! انه السكرة السحرية ، انه الغيبوبة الطواعية ، انه الامحائية الارادية ! سوف تؤدي بنا الى الفناء لامحال " ! يا أهلونا" أقل ما أضرت بنا أنها قتلتنا وما فتئت تقتلنا (موتة رحيمة) يعني بهدوء و روية بحيث لا يشعر بوطأتها الخبراء ، ولا يتحسس أذاها الشعراء ! انه "الجهل والتضليل " يا اخوان ، عشعش وباض ، ثم حضن و فقس . ان لم نهتد للسلطان ، ألا السلطان سلطان الزمان، ما استغنى عنه مرتو و لا ظمآن ، الا من استغبى أو تخدر ولم يبغ البقاء فاندثر . سلطان العلم "اخواني" وحده من يضمن لنا التخلي عن "العادات السيئة" التي ذكرنا . العلم وحده من يؤدي بأهله الى معرفة : الطيب من الخبيث ، السليم من السقيم ، الأصلي من المستنسخ ، الحقيقي من المزيف ......... ألا العلم وحده من جعل الانسان ينفذ في أقطار السماوات والأرض؟ . فكيف يعجز أن يدلنا عن ، كيفة العيش مع بعض ككل الناس ؟ . لهذا الغرض فقط و له وحده أردنا أن نبلغ و نحقق "النضج المواطني" فعلا لا شعارا ، حتى لا نتأذى من ذاتنا بذاتنا مثلما سبق وأن حدث لنا (كجزائريين) و تكرر ، و به نتمكن من بناء "دولة المؤسسات" التي نصبو الى تجسيدها لنضمن لنا حياة ، حياة تحيا .........كسائر الأمم . فلم "دولة المؤسسات" هذه ؟